بسم الله الرحمن الرحيم
أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب
رجلٌ أجهد نفسه سنواتٍ طويلة يروح ويغدو، يضرب في الأرض عاملاً ناصباً، قضّى في ذلك فترةً مهمةً من عمره، حتى إذا حصّل بعض الثروة تمكّنه أن يستريح معها بقية عمره إذا ما أسنّ وتقلصت حركته.
لقد كان ما جمع مبعث اطمئنانٍ لما يستقبل من الأيام، ومصدر راحةٍ لما يواجه من الزمان، لاسيما أن له بنين وبناتٍ لم يجاوزوا الحنث يحتاجون إلى تلك الثروة ترعى شؤونهم وتمدّهم بالعون ريثما يكبرون.
أرأيتم لو أن هذا الرجل نفسه، قام إلى ذلك الرصيد المفيد، فأورى فيه ناراً أتت عليه، أو قذف به في بحرٍ محيط، فلم يبق منه أثرٌ ألبتة، أوليس ذلك هو الحمق الأكبر، والطيش الأوسع، الذي يربأ عن مثله العقلاء، وينأى عن فعله الأسوياء.
وهذا الرجل يشبه رجلاً آخر، أجهد عمله، وأسهر ليله، وأظمأ نهاره، كادحاً زارعاً حتى كان له بستانٌ عظيمٌ فيه من كل شيءٍ، زروعٌ وثمرات، ماءٌ وحجرات، ظلالٌ وغلال، هيأته كي ينعم ويرفه، ويسكن ويطمئن.
تصوروا كم هي حسرة ذلك الرجل وحُرقتُه، وكم هو عذابه وألمه، وقد كبر واحتاج وله أولادٌ صغار يحتاجون معه إلى ما في البستان من زروعٍ وثمار، فهو مورد الرزق الوحيد، وسبب الاطمئنان الفريد.
تصوروا أن ذلك البستان عينه عصفت به ريحٌ صرصرٌ عاتية، فيها نارٌ حامية، فلم تبقِ من البستان باقية.
نعم لقد تزايدت جهات حاجاته، وتناقصت جهات دخله وكسبه، له عيالٌ لا يقدرون على نفعه، بل هم في حاجةٍ شديدةٍ إليه، إنه أعظم الترقب من هذا الإنسان لثمر ذلك البستان، فإذا به بعد ذلك الجهد الطويل، والأمل العريض، ينزل به الفناء الكبير، والدمار الوبيل.
هذا بالذات ما لاح لي وأنا أتلوا آيات الكتاب العزيز متدبراً مثلاً حضّنا القرآن على التفكير فيه.
وكان جزءاً من ذلك التفكير، أن أعود إلى كتب التفسير، لأجد المنقول والمعقول، مما يُثلج الصدور والعقول، غير أنني وقفت عند فهم فقيهٍ من فقهاء الصحابة الكرام ممن دعا لهم النبي بالفهم والتأويل، فكان عبقري الأمة الفاروق يفسح له المجال وهو بعد غلام، ليكون في مجلس شيوخ الصحابة الكرام، يشاركهم الرأي في أشدّ المسائل، وأهم المشاكل.
فقد ذكر العلامة ابن كثير وغيره من علماء التفسير ما جاء في صحيح البخاري عند تفسير هذه الآية التي نحن بصددها: (أن ابن جريج قال: سمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدث عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وسمعت أخاه أبا بكرٍ بن أبي مليكة يحدث عن عبد الله بن عمير قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيمن ترون هذه الآية نزلت {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} قالوا الله أعلم، فغضب عمر رضي الله عنه فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: في نفسي منها شيءٌ يا أمير المؤمنين، فقال عمر رضي الله عنه: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلاً لعملٍ، فقال عمر رضي الله عنه: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل رجلٍ غنيٍ يعمل بطاعة الله ثم بعث الله عز وجل له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق عمله) أي زادت سيئاته على حسناته وختم له بالشك والشقاء والعياذ بالله تعالى
وفي روايةٍ بلفظٍ منسوبٍ إلى عمر رضي الله عنه: (هذا مثلٌ ضرب للإنسان يعمل عملاً صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إليه عمل عمل السوء).
فأي غمٍّ وهمٍ، وحيرةٍ وحسرةٍ، ونكدٍ وكمدٍ، أعظمُ من ذلك الحال، نعوذ بالله من غضبه وعقابه وسوء المآل.
والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ في كل آنٍ وحال.
بقلم: فضية الشيخ عبد الهادي بدلة
منقول اللامانه